الجمعة، 7 أغسطس 2009

ورحل الرجل النظام

كلما ودعت البلاد عالماً او كلما كتب أخي البوني عن فقد عالم يذكرنا بقول سنغور «احترقت مكتبة»، أما أنا اليوم لا أقول احترقت مكتبة فقط بل وأزيد إنها مكتبة نادرة الوجود مكتبة الرياضيات، بل رحل رجل فريد في عصره.
قف عند العنوان مرة ثانية، لم اقل رحل رجل النظام كما قرأها مهووسو السياسة ويريدون أن يعرفوا من رجل النظام الذي رحل. ولكني قلت رحل الرجل النظام، برحيل أستاذنا الطاهر العاقب ذلكم الرجل الذي لكل من درس الرياضيات أو درَّسها له عليه يد مباشرة أو غير مباشرة. فهو الذي درس في المعاهد العليا والجامعات فوق الخمسين سنة، وعلى أيامنا كان اسمه ضمن مؤلفي كثير من كتب الرياضيات في المرحلة الثانوية.
أما الذين تشرفوا بطلب العلم على يديه فقطعاً تعلموا منه أشياء كثيرة غير الرياضيات. فالرجل كان يعمل كما تعمل الساعة بل كانت الساعة تعمل مثله، محاضراته في الغالب كانت صباحاً، وعلى أيامنا كانت المحاضرات في السابعة صباحاً ولا عذر للتأخير فبين الداخلية والقاعة أمتار قليلة وكان تصل سيارته الموسكفتش -وما أدراك ما المسكوفتش في ذلك الزمان- وتقف في مكان معين تحت السلم في السابعة إلا خمس دقائق وبحركة درامية يضع الصحيفة على «طبلونها» وينزل ويدخل مكتبه وفي السابعة تماماً يكون قد وقف بين السبورة والطلاب واخذ ورقة الحضور ومدها لأول طالب على اليمين في صمت. وفي يوم كان الطلاب فيه في حالة إضراب ولم يدخل إلا طالب واحد المحاضرة ومدَّ إليه الورقة وعندما أراد الطالب ليقول له «الطلاب مضربين» أشار إليه أن اصمت ودرَّسه ساعتين كاملتين. لم يسأل يوماً سؤال المدرسين غير المحضرين وقفنا وين يا جماعة؟ ومن ذلك، كتب في نهاية واحدة من المحاضرات «بالإنجليزية نترجمها: افرض ب1 = ... وافرض ب2 = ...، وانتهت المحاضرة وانقطعت الدراسة شهرين لسبب ما وجاء بعد الشهرين ليقول وب3 =...، وانفجرت القاعة ضحكاً واستمر كأن ب1 وب2 كانتا بالأمس، غاب عن محاضرته مرة واحدة، وكان ذلك في العام 1976 يوم انقلاب مشهور لعلع فيه الرصاص وامتلأت الطرقات بالدبابات القادمة والرائحة وجاء صوت الهاتف وامسك احد الطلاب بالسماعة فإذا بالرجل النظام يرسل اعتذاره لطلابه بأنه وجد الكبري مقفولاً. بمعنى انه إذا وجد الكبري مفتوحاً لحضر والقى محاضرته ولا يهمه إلا عمله ويترك الآخرين في ما هم فيه. في الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق ظهراً له فنجان قهوة في بوفيه الأساتذة يأتيه دون أن يطلبه وبالثانية. كان يدرِّسنا باللغة الإنجليزية -كنظام الجامعة في ذلك الزمان-، ولا ينطق بكلمة عربية واحدة. وأوفدت وزارة التربية بعض معلميها لكورسات بكلية التربية وكان يدرسهم باللغة العربية ولا يخلطها بكلمة إنجليزية واحدة لدرجة ظنوا معها أنه لا يعرف الإنجليزية، لا علم لي بحياته الخاصة في بيته ولكنه كان أستاذاً قدوة لو اقتدى به كل السودان بأن يملأ كل رجل مكانه تماماً لما كنا في ما نحن فيه الآن. رحل الأستاذ الطاهر العاقب ولم أرَّ له إلا نعياً من جامعة السودان في ربع صفحة، سبحان الله يا له من فرق كبير بين موت وموت في سودان لا يعرف النظام!!
اذهب أستاذنا الجليل إلى ملك غفور رحيم ونحن طلابك ندعو لك بالمغفرة والجنَّة بقدر ما علمتنا من نظام وجد ورياضيات ولن نعتذر لك عن ما نرى من نعي لهذا وذاك أين ما التفت ولم تنعك الا الجامعات. فأنت اعلم بذلك منَّا اللهم ارحم الرجل النظام الرجل الذي علَّم قيمة الوقت قبل الرياضيات وذهب.
3/3/2005م

ليست هناك تعليقات: