بتاريخ : الجمعة 24-06-2011 09:03 صباحا
لقد بدأت الفتنة تطلُّ برأسها هذه المرة في جنوب كردفان التي تتقاطع فيها خيوط متشابكة قد تحوّل الوضع إلى شيء أشبه بما حدث في دارفور إذا لم تتوفر الحكمة وضبط النفس. فالتركيبة السكانية معقدة بدرجة لافتة للنظر مثلما هو الحال في دارفور تماماً إلا أن الوضع هنا يدخل فيه عنصر الدين، لأن بعض سكان الولاية هم من النصارى وبعضهم وثني لا دين له، ومعظمهم من المسلمين، ودارفور مسلمة كلها. والتركيبة الإثنية غاية في التمايز و إن وجدت بينها علائق تاريخية ضاربة في القدم، ولكنها لا تخلو من توترات من وقت لآخر. ويظل العامل الأكثر والأبعد أثراً هو وجود قوة كبيرة للحركة الشعبية في الولاية تحت قيادة عناصر متطرفة تدفعها غايات وطموحات شخصية، وتغذيها جهات لها أطماع ومصلحة في إشعال فتيل الأزمة وإزكاء الاحتراب والقتال لتحقيق أهداف بعضها معلن يتمثل في إسقاط النظام القائم وبعضها خفي تشوبه روح الصليبية وحقدها الدفين الذي تسخره الصهيونية العالمية لتحقيق أهدافها الخاصة. علاوة على هذا هناك انتشار كثيف للأسلحة بكل أنواعها، ويزيد من خطورة الوضع طبيعة المنطقة الجغرافية الجبلية الوعرة. بشكل عام يبدو أن الجيش السوداني قد استطاع بسط سيطرته على المدن والقرى الكبيرة ولكن ما زالت هناك تحركات متقطعة لجيش الحركة الشعبية الذي يتلقى إمدادات لوجستية وعسكرية من الجنوب ولذلك سيظل يقاوم ويناوش لفترة قد تطول ولذلك سيضطر كثير من الأهالي للنزوح من مناطقهم وستعيش المنطقة فترة عصيبة من عدم الاستقرار وزعزعة الأمن. وما يجعلنا نتفاءل هو أن الكثيرين من أبناء المنطقة ومن كل الأطراف قد نأوا بأنفسهم عن هذا القتال حسبما أشارت وسائل الإعلام ؛ كما أن القتال ظل محصوراًً بين قوات الشعب المسلحة وجيش الحركة ولم تشترك فيه جهات أخرى، بل دعت عدة شخصيات وتجمعات أفرادها للابتعاد عن مناطق التماس حتى لا تجرهم الأحداث للانخراط في أعمال قد تعقد الوضع من ناحية قبلية وعنصرية، وهذا بالتأكيد مؤشر جيد. من ناحية أخرى أعتقد أن الحكومة قد استفادت كثيراً من تجربة دارفور وبالتالي لن تسمح لمليشيات شعبية بالمشاركة في الحرب نظراً للوضع المعقد الذي تعيشه الولاية وحتى لا نعطي وسائل الإعلام المغرضة الفرصة لتصوير الصراع على أنه بين أفارقة وعرب مثلما حدث في دارفور. وإذا كان تهاون الحكومة وانشغالها بالقتال في جبهات عديدة عند بداية التمرد في دارفور قد ساعد على استفحاله، فإن الوجود العسكري المسلح في جنوب كردفان الآن كافٍ للتعامل مع عناصر الحركة بكل حسم وقوة. علاوة على هذا، هناك اختلاف بين مصالح الدول الغربية وأمريكا في منطقتي دارفور وجنوب كردفان لأن المصلحة الاقتصادية هي التي تدفع أمريكا للتدخل في دارفور حيث يوجد النفط؛ أما مصلحة فرنسا فهي اليورنيوم بالدرجة الأولى. وتدخل إسرائيل على الخط هنا لأن لها ارتباطاً مع بعض قبائل المنطقة، ولذلك تشجعهم على إحياء فكرة دولة زغاوة الكبرى وتوفر لهم الدعم المادي والإعلامي عبر مجلس الكنائس العالمي الذي يطمع بدوره أن يكون له موطئ قدم في مجتمع دارفور المسلم بتنصير الأطفال، ولعلنا نشير هنا إلى ما قامت به بعض الجهات من محاولة لتهريب بعض الأطفال عبر تشاد إلى فرنسا وما تقوم به بعض منظمات العمل الطوعي من محاولات يائسة للتنصير في معسكرات النازحين. ولكن المصلحة الغربية في جنوب كردفان تأتي في إطار سياسي وديني زائف وضعيف يقصد منه دعم قيام دولة الجنوب وشغل حكومة الخرطوم وإضعافها عسكرياً بتحريك العناصر اليسارية والخارجة عن سيطرة القيادة في الحركة الشعبية لافتعال معارك جانبية وجرّ القوات المسلحة لصراع عسكري يتيح لأمريكا بالذات مزيداً من التدخل في الشأن السوداني خدمة لمصالح إسرائيل التي تسعى لخنق مصر والسودان بالسيطرة على مياه النيل وإقامة مشاريع مائية في الجنوب ودول حوض النيل الأخرى. من ناحية قبلية توجد في دارفور امتدادات قبلية في بعض دول الجوار الشيء الذي وفر لحركة العدل والمساواة تحديداً مساحة واسعة للتحرك قبل السيطرة على الحدود السودانية مع تشاد واندلاع الثورة الشعبية في ليبيا.
أما بالنظر إلى جنوب كردفان فتكاد هذه العوامل تنعدم تماماً لأن المنطقة تقع إلى الداخل والجهة الوحيدة التي يمكن أن يصل منها الدعم للتمرد هي الجنوب وهذه ربما تتوقف بعد حين. بالتأكيد سيظل العنصر الخارجي قائماً ولكنه لن يكون بذات القوة بعد إعلان دولة الجنوب لأن الاهتمام الغربي سينصب على تقوية الدولة الوليدة التي ربما تدير ظهرها لحلفائها القدامى من الشمال إذا اقتضت مصلحتها العليا ذلك أو إذا أملي عليها موقف سياسي خارجي حسب مقتضيات الوضع الدولي والمصالح الغربية المتجددة. محلياً لا يبدو أن قبائل جنوب كردفان من كل المكونات العرقية متحمسة أو مستعدة لخوض صراع ليس لها فيه مصلحة مباشرة كما أنه لا توجد قيادة سياسية موحدة لأي من الأطراف ـ باستثناء عناصر الحركة الشعبية من شأنها أن تقود تمرداً في المنطقة لتحقيق مكاسب قبلية أو جهوية خاصة بعدما لمسوا ما وفرته لهم فترة الاستقرار التي تلت توقيع اتفاقية السلام من خدمات تنموية ظاهرة للعيان. وعموماً كانت دارفور سلطنة مستقلة ولذلك يحلم بعض قادة التمرد بوضع أو ترتيب سياسي ما؛ بينما جنوب كردفان لم تكن كياناً مستقلاً بالرغم مما فرضته عليها سلطات الاستعمار من عزلة إبان سياسة المناطق المقفولة. لكل هذه الأسباب نعتقد أن جنوب كردفان لن تكون دارفور أخرى، ولذلك فليمتنع المرجفون والطامعون عن إزكاء النعرة العنصرية بين أبناء هذه المنطقة العزيزة من الوطن وإشراك متمردي دارفور والاستعانة بهم في هذه الأحداث التي ليس من ورائها طائل. ولكن عمّا تسفر المشورة الشعبية إذا قدِّر لها أن تجرى حسب اتفاقية السلام الشامل؟
محمد التجاني عمر قش ـ الرياض
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق