سبقني للدار الآخرة أعزاء كثيرون ولكن فقدي اليوم عظيم وليس له بديل، بفقدي لأبي فقدت دعوات مستجابة كانت تلاحقني في كل مكان وأتذوق طعمها. كان أبي محباً للعلم والمتعلمين حرص على تعليمنا في وقت كان أي مستوى للتعليم يمكن يحقق وظيفة تأتي بالمال. يوم دخلت أول منافسة من المدرسة المجلسية إلى ذات الرأسين وتأخر اسمي «بكيت» وانا ابن العاشرة فما كان منه إلا ان قال لي: سأشتري لك مدرساً وأضحك القول من كان حولنا من الرجال ولم ادخله تجربة فقد جاء اسمي من ضمن المقبولين وقال له من حوله: الله ريحك من شراء المدرس. أكملنا المتوسطة وكان يمكن أن نلتحق ببخت الرضا ونتوظف بعد سنتين كما فعل أحد أقاربي ولكن أبي قال له: إن فعلك هذا كبيع محصول لم يستو. كان يدعو لنا جميعاً بدعوة محفوظة «الله يحضرني جامعتك» والحمد لله قد استجاب الله دعوته فقد تخرج كل بنيه من الجامعات ومن فاتته أدركه نظام الناضجين وفيه نجح وتعداه للماجستير. كان يعاملنا كإخوة لا يقسو علينا ابداً يحبنا حباً شديداً يمازحنا، يسامرنا، كل حديثه حكم ما لم ندركه في شبابنا أدركنا حكمته ونحن كبار. لم يجبرنا على شئ إلا ما يتعلق بحياتنا الاجتماعية وطريقة الزواج وكان مصراً علينا وعلى كل من يعرف بأن يتزوج على الأقل من القرية. لم يحلف بالطلاق أبداً وكانت له وصية يوصي بها كل من يتزوج في يوم زواجه بان لا يحلف بالطلاق ويتركه بعد ذلك وشأنه ويوم زواجي اوكل عمنا «عبد القادر-رحمه الله - ليوصيني بها» لتكون ابلغ وها أنا عامل بها إلى يومنا هذا نسأل الله الثبات. وكانت له قناعة في ذلك بأن من يحلف بالطلاق فإن ابناءه غير شرعيين. فقد تعلم الفقه من الشيخ مصطفى معلم جيله ومعلم قريتنا التي أورثها علماً كثيراً وورعاً. كان أبي مرجعاً إن لم نقل في الفقه المالكي فعلى الأقل في أصعب أبوابه وهو الميراث. عندما خالطنا علماء السعودية وجئنا ببعض الفقه السلفي كان يقول لنا: يا اخوانا السعودية جيبوا لينا منها الفلوس وبس. داعبني يوماً وهو يستمع للشيخ عبد الحي يوسف من التلفزيون: تعال اسمع العلم الموكتابة جرايد. كان محباً للعلم والعلماء والمتعلمين، له علاقات خاصة مع طلائع المتعلمين رغم فارق السن معهم. كان مصراً على ان يكون له دكان على الشارع العام مهما صغر رأسماله ويقول السلام عليكم وعليكم السلام وتفضل، هي خير من كل ربح وهي ربح الدكان الحقيقي. كان يدعو للمسافرين بطريقة يعرفها هو ويعرفها كل عارفي فضله وبعضهم لا يخرج من القرية إلا إذا ودعه. ويقصده أصحاب الأشياء الضائعة ويدعو لهم بدعاء يعرفه وعلمه لبعضهم. كان يفرح بالضيوف فرحاً ويبالغ في إكرامهم إن لم يكن في المأكل ففي طريقة راحتهم بان يأمرهم بالخلود الى السرائر بدلاً عن الكراسي التي يرى فيها عدم راحة للضيف والمسافر.كان مرحاً فكهاً له أصدقاء من كل الأعمار يوم وفاته بكاه الجميع رأيت دموع أعمام لو قيل لي إن لهم دموع لما صدقت، أصدقاؤه لا يحصون وكما أسلفت في كل الأعمار حتى ياسر ابن عمي ابن الرابعة عشرة كان له صديقاً حميماً ويقول ياسر صاحبي وبكاه الجميع. طول عمره وعمري ما رأيته في محكمة ولا في خلاف مع أحد. يوم كنا غير مواظبين على الصلاة يقول لنا قولاً لطيفاً يا اخوانا ورونا عيبها شنو عشان نخليها كلنا. ليس متزمتاً كان يحب المديح والمداحين وخصوصاً أولاد حاج الماحي ومن المتأخرين مدحة البرعي «بوريك طبك أحسن في من عادك ومن يحبك اذكر إلهك يوت» ومع ذلك كان فنانه المفضل جداً سيد خليفة وفنانه غير المفضل أبداً هو.......... لا يسمعه ولا يدع أحداً أن يسمعه في حضرته وفي آخر أيامه ظهر الفنان غير المفضل في التلفزيون وقلت ربما تصالح معه بمرور الزمن ولكنه فاجأني: اقفله. اللهم ارحم أبي رحمة واسعة واغفر له بقدر وبأكثر مما تعب علينا، وبقدر حبه للناس وحب الناس له، اللهم ارحمه واغفر له بقدر دعوات المعزين فيه. وشكرنا لهم جميعاً فكانت فيهم المواساة الحقيقية في فقدنا العظيم ويصعب على المرء مهما كان إيفاء موضوع كهذا حقه فهو خلاصة عمر عامر.
16 ديسمبر 2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق